لم أكن يوماً أدرك وأنا أتعلق به بأنني يوماً سأكتشف كم كنت ساذج ، كنت واثقاً ولم أشكك يوماً في خيانته و حقيقة ما يقوله لنا ، كنت متعلقاً به كما كنت أحب سماع أحاديثه وقصصه وعباراته وكذا أبطاله وشخصياته ، أجل فقد كنت أحبه
كم هو قاسٍ ذلك الشعور ، عندما تصدم بمن تحب ..!
لكن الأقسى هو أن لا تجد مواساة من أحد .
وخاصة عندما يكون محبوبك ليس له بديل ، وما حتلاقيش بكره (سيد سيده) .
حينها ما عليك سوى أن تكتئب وتفكر في الانتحار ، أو تقفل عليك باب الغرفة وتضل وحيداً مكتئباً إلى أن يشاء الله .
نعم أعترف بأني كنت قاسٍ معه بعض الشيء .
أنا لم أهدي إليه يوماً قصيدة من قصائد الحب .
ولم أرسل إليه باقة ورد .
ولم أتصل وأسمعه كاظم الساهر وهو يغني إحدى قصائد نزار قباني .
لكن كنت أحب اقتفاء أثاره ، ونقل أخباره .
لقد كنت أحبه حبا وما بين حباً وحباً أحبه حبا
لكن كم هو مؤثر ومحزن أن يموت من تحب ، وأنت لم تكلف نفسك عناء البكاء عليه أو رثيه بقصيدة غير عصماء لتخلد ذكره بها .
كان من المفترض أن أفعل ذلك منذ وفاته ولكن لم يحن الوقت بعد ، فأنا منذ أن أحببته فقد أحببته لأنه ميت .
أجل نحن نحب ذلك المدعو تاريخ لأنه شيء من الماضي ، ونحب أن يكون لنا معرفة بما دار فيما مضى .
لكننا ما نفتأ ندرك أننا ساذجين بفعلنا ذلك .
كل شيء تعرفه عن التاريخ سوف يتغير بعلمك أن التاريخ يكتب على النحو التالي :
هل فكرت يوماً بحضارة الفراعنة أو السومريين أو ... أو .... الخ .
ماذا تعرف عنها ؟.
ليكن الجواب بأن أحدنا يعرف الكثير .
من أين استقيت معرفتك ؟.
ليكن الجواب : من النقوش والآثار التي وجدت .
وبما أن الآثار والنقوش ما هي إلا الناطق الرسمي باسم الحاكم أو الملك أو الفرعون أو الزعيم ؛
إذا وكأنك أطلعت على الصحيفة الرسمية الناطقة باسم الدولة الفلانية .
قام الزعيم الفلاني بعمل بطولي وقد سحق الأعداء (يقصد المعارضين ) وأودعهم السجون والمعتقلات وشهر بهم ليكونوا عبرة لمن لا يعتبر .
ربما كان هناك صحفي متملق يكتب على ورق البردي باللغة الهيروغليفية ليلقى عطايا الفرعون .
أو قد نفاجئ بأحدهم سرق كتابات وأفكار أحدهم ورسمها باللغة المسمارية على لوح من الطين لينسبها إلى حامورابي ليكن أول من وضع قانون على وجه البسيطة ، وكان ذلك المسكين مسخ و متمرد وأحمق وكل ما هنالك من عبارات الشتم والتشهير .
إذا كان التاريخ يحاول إقناعنا مثلاً بأن الإهرامات بنيت بصخور نقلت مش عارف فين على ظهور الرجال وكانت تلك المرحلة مرحلة رخاء ولا يوجد استبداد طبعاً (لأن المصريين في ذلك الوقت كانوا يحبوا الفرعون ويفدوه بأرواحهم وسيحملون جميع الأحجار على ظهورهم ليبنوا له قبراً كما هو الحال الآن ) ، وعندما يقول أحدهم بأنها ليست سوى كتل طين شكلت بطريقه معينة سنقول عليه بأنه مجنون وستحتج السفارة المصرية على قول مهندسنا المجنون طبعاً لأنه كذب السيد تاريخ .
لا أريد أن أفيض واستفيض ربما تكون أمثلتي غير مقنعة ولكن لست أؤمن بصحتها ، بل أحاول أن أضرب أمثلة فقط .
لكن ماذا سيروي للأجيال القادمة وكيف سيكتب ما كنا عليه ذلك المدعو تاريخ .
من وسائل كتابة التاريخ الحاضر الكتب ، فمذكرات الزعيم الفلاني هي البرهان القاطع عن ما جرى للأخوة الذين قاموا بالثورة الفلانية وماتوا جميعهم ونجي وحده بأعجوبة ، تجعل من الممعن فيما جرى ، يتيقن بأنه لم يكن سوى هو من قتلهم ، ويخلد نفسه بطلاً ثورياً وزعيماً ملئت الحكمة عقله حتى فاضت إلى البر والبحر ، واكتب أيها التاريخ حماقات تلوى حماقات .
ولنفترض أيضاً بأن من وسائل كتابة التاريخ ، التسجيلات الصوتية ، والتسجيلات المرئية ، والمسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية .
فسنجد فترتنا التاريخية التي نعيشها رغداً ونعيماً مقيماً لم نكن نشعر به ، فما بالك بعدد الأغاني والفيديو كليب ومسلسلات الحب والرومانسية وهذا الثراء الواسع من العقول المبدعة في عالم التقدم والرقي إلا وهو الغناء الفاحش عفواً المرفه والذي يدل على أننا نعيش في مكان لا يجود اللفظ بتسميته سوى بالجنة .
اكتب أيها الأحمق عن السيدة نانسي حبيبي أرب بص وبص زعلان إزعل نص ونص و انت ايه و... و... .
ولتنقل أيضاً عن الممشوقة القوام بارزة الصدر هيفاء ، هي هيفاء هيا و بوس الواو ورجب و.. و.. و..
أما عن الشخص الوحيد الذي يجب أن تكتب عنه فقل بأنه يكره إسرائيل ويحب عمرو موسى وهييييييييي .
وعن ألواد تامر حسنى اكتب يا بنت ألأيه ، واكتب بأن عدد المعجبين به من النساء مش عارف أين بلغ وأنهن مستعدات أن يرمين بأنفسهن فداء له من أي مرتفع شاهق ولن يكن في حكم المتردية أو النطيحة بل سيسجلن شهيداتُ في جنة الفن يرزقن .
وعن الشحرورة لا تنسى أن تخط وعن أزواجها تحدث ، كما لا تنسى أن تكتب عن أصالة و أليسا ومحمد عبده -الفنان وليس الشيخ- وعن راشد بأنها قالت تحبه ، ولا تنسى أن تذكر بأن الأخ فلان يحب الحمار وأن احدهم بيحب الموز والمنجى والعنب العنب العنب، كما لا تنسى ذكر جواد و عبدالله بالخير وعن غيرهم وغيرهم و غيرهم فإذا أمليت لك ما تخط أيها الأحمق فماذا سيكون عملك أنت .
أما عن غيرهم فتحدث عن الزعيم فلان بحضوره احتفال ما وافتتاحه لمشروع في تلك الجنة التي كانوا يعيشون فيها .
أما عن غيرهم فلا تذكر فلا يوجد ، سوى شرذمة لا هم لهم إلا المساس بأمن هذه الجنة وتشويه سمعة من يحكم فيها بعدل وإخلاص .
وعن المفكرين فلا تأرشفهم فغيرك قد قام بهذا الدور فالمسلسلات والأفلام تنجز عملك بجداره .
اللمبي بطل قومي ، وزهره لها أزواج خمسة ، وباب الحارة بأجزائة الخمسة أيضاً ، والبنت عايزه تجوز لكن لا تتحدث عن ضيعة ضايعة لأنها الناجي الوحيد من ثورة التكنولوجيا .
كم أصبحت دون جدوى أيها التاريخ فهناك من يقوم بعملك بكل جدارة واقتدار ، فخذ إجازة طويلة وارحل إلى جزر الكاريبي أو اذهب إلى ادغال أفريقيا في رحلة للمتعة والاستجمام واكتب مذكراتك التي ما عادت تهمنا .
أعلم بأنه ما زال في خلدك أشياء تدور لذا سوف أقتصرها بما يلي فلا تقلق .
الانترنت سيجدون له حلاً ، ففيس بوك خارج عن الملة وسوف يحجب ، ولن يستطيع أحداً الوصول إليه بعد فترة وجيزة ، وويكبيديا الموسوعة الحرة سوف تحرر وسيكون الحذف والتعديل فيها من الممكنات كما هو .
أما عن هذا المقال فيجب أن يحذف أو أن يكذب أو يتهم صاحبه بالجنون كي لا يجده أحد المستكشفين الغربيين الذين سيأتون ليقرءون لهذه المنطقة تاريخها ويستشهدون به رغم أنه لا أعرف هل سيكون دليل براءة أو إدانة .
ونقطة في عمق التاريخ قد تخرج ماءً ، لتنبت حبراً يكتب به التاريخ ولا ينمحي أبداً وانتهى .
عبدالفتاح الصلوي
اضغط هنا لمشاهدة المقال في منتدى الساخر
تعليقات
إرسال تعليق