التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عندما تنطفئ النجوم - قصة ثورية


سقط صامد سقط صامد شهيداً، وبقي العلم الصغير، بقيت أمّه الأرض.




 



انه المساء... الدخان يتنفس زخاته الأخيرة التي تعلو مداخن البيوت ، والمكان يتثاءب .. الليل يسدل استاره ، ثم ينسحب الجميع ، وكأنهم يطبقون تلك الخطة التي تدارسوها قبل ذلك ؛ الضوء انسحب تدريجياً ،رافقته الاصوات التي خبئت معه ببطء .
 

المكان ساكن تماماً ، خلا بعض الانوار التي تبدو كنجوم صفراء ، او درر رميت على بساط حالك السواد ، ثم اصوات بعض العجائز يمددن ارجلهن المنهكة ويهدهدن احفادهن ..
 

تستمر تلك الدرر في الاختفاء ، ويستمر الصمت في احتلال المكان ، الى ان يصل ذروته ، ينتابه بعض التحركات لبعض النسوة ، تدعو لا بنائهن في غيابهم ، في ذلك الوقت الذي يحركن السلة التي تحتوي على (دبية) الحليب .
 

ها هو الليل قد انتصف ، لا شيء في الأفق ، لا شيء اطلاقاً ، سكون تام ، تمر الدقائق كأنها لا تتقدم ، فجأة يصدر صوت لا يعرف مصدرة لكن ما يميزه أنه مخيف ، بعد الانصات لذلك الصوت عدة مرات بهدوء وخوف شديدين ، يتضح انه صوت طائر البوم ، وها هو المكان وكأنه لا وجود له .
 

في النهار ، الارض قاحلة ، قليل من البشر يدبون على تلك المنطقة ، و يختفون عند بلوغ الشمس كبد السماء , تحاول الرياح ان تلطف الجو بمرورها , ثم انها لا تستطيع ، تحمل معها بضعة اوراق متساقطة ، وغبار ترميه على اوجه المنازل ، وعلى ارصفة الطرقات وتهز سيقان الشجر .
 

لا أحد يبتسم ، الاطفال الذين يطلون من الشرفات ؛ تبدو على وجوههم الحكمة ، تمر غيمة مسرعة في السماء تربت على اسقف المنازل ، على قمم الجبال ، على حبات الحصى ، ثم تغادر ، وكأنها تبحث عن شيء .
 

الوضع لم يدم، هناك في وسط الهدوء وفي وسط حفنه من البيوت ينطلق صوت ،
عاااااااااااااااااااااااااان
فتى يلعب !
ابتعدوا عن الطريق دراجتي سوف تصدمكم .
انه ( صامد ) ، ما يفتى أن يحدث حركة غير عادية في المكان .
إحدى النسوة : صامد خذ هذا الى عمتك !

 

يجيب : حاضر يا خاله فوراً ، عااااااااااااااااااان ، ينطلق صامد بدراجته الوهمية ، تتحرك معه الاوراق الملقاة على الارض وشفاه من يمر عليهم ، ويحاول بعض الاطفال إعاقته لكن سرعته تبلغ ذورتها ، لديه خف قديم وثيابه تبدو باليه ، نحيف جداً ، وظريف جداً .

 

صامد فتى في الابتدائية ، يدرس في مدرسة القرية ، يبدئ يومه في الصباح الباكر ، يصحو دائماً سعيداً ، يقدم الطعام لجده ، ويجلس ليتناول افطاره معه ، يسأله الجد عن ما قرء من سور القرآن في اليوم السابق ، فما يفتى يتلوها على مسامعه ؛ فيعده بأن يشتري له ثياباً جديده عندما يتفوق على الجميع ، ينهي افطاره ويتحرك بسرعه ، ينادي على رفاقه فيتبعوه ، كأنه القائد .
 

يقف في طابور الصباح نشيطاً ، وهنا لا احد يحيي العلم سواه ، يقف بشموخ مفرط امام تلك الخرقة البالية التي ترفرف أعلاه ، يصيح بكل صوته ليردد الجميع بعده :
الله .. الوطن .. الثورة .. الوحدة .. تحيا الجمهورية اليمنية ...
 

وبعدها يتحرك الطلاب بخطوات منتظمة ، الى تلك الأماكن التي يدعونها فصول ، فالمكان عبارة عن هيكل لمدرسة ، لا أبواب ، ولا نوافذ ،ولا كراسي ، يجلس الطلاب على الاحجار ، وتداعب اجسادهم الصغيرة الرياح .. وينظرون الى ما يكتب على لوح خشبي ذو لون اسود .
 

تمر الساعات وينهي الجميع يومهم الدراسي ، يسرع الاطفال الى الخروج ، صامد بالطبع في مقدمتهم ، وهم اما يرددون نشيداً او يناقشون الأحلام التي حملوها حتى الآن ، راسمين في أذهانهم صورة للمستقبل .
 

يهرع صامد الى جده الذي يعمل في حراثة الأرض ليساعده ، ثم واذ هم متكئون الى ظل شجرة ، يسأل جده الذي بدوره ينظر الى الافق بصمت وعلى وجهه قد رسم الزمن تعرجاته.
 

جدي ما هو الوطن ؟
لقد قالوا لنا في المدرسة بانه اغلى شيء لدينا !
هل يعني بان الوطن اغلى من هذا الثور !
واغلى من بقرة جدتي !
الوطن اغلى من بئر القرية ايضاً !
 

يلتفت الجد ، يمسك بيده كتلة من التراب ، ويذروها امام عيني صامد قائلاً :
هذا هو الوطن ! انه الارض .. الوطن هو أُمنا جميعاً .. ترضعنا ، وعندما يحين الوقت ننام في احضانها !
تنطبع تلك الكلمات في ذهن صامد ، لكنه لم يفهم معناها .
 

تمر الايام برتابتها ، وبحيوية صامد ، وتكسو الارض الخضرة ، ثم تخلع ذلك الثوب .
 

وها هو صامد قد بدء في النضج ، وبلغ من العمر ما يؤهله ان يترك القرية ، مثل باقي الاطفال الذين لم يتموا دراستهم الاعدادية ، سينتقلون الى العاصمة ، كي يعملون ، اما في ورشة ، او في مطعم ، او غيره ،وسيواصلون دراستهم معتمدين على انفسهم ، وسيرسلون بما تبقى من مبالغ بسيطة الى اهاليهم ، سينامون في البرد ، و سيغسلون الصحون ويقدمون الطعام ، وسيتعلمون اللحام ، ستذرف عيونهم الدمع ، وسينهرهم الاخرون ، وسيبتسمون لمن حولهم دائماً .
 

صامد في احدى المطاعم ، ينادي بطلبات الزبائن ، ويتحرك بسرعة ليجلب ما طلب كأنه الوحيد الذي يعمل ، كأنه الملك لا احد يجاريه في شيء ، في الركض ، في الصراخ حتى في الحساب ..
 

ما هذه السمفونية التي يعزفها هذا الطفل !
انه ينشر السعادة اينما مر ، ويحقق النجاح ..!
لا شيء في جعبة هذا الطائر ، سوى التغريد والحب والعطاء . لم يره احداً على غير هذا الحال .
 

ينهي عمله ، ثم يمر على اصدقائه ، ويجلس في المساء القرفصاء ليكتب واجباته ،وبعدها يرمي بجسده النحيل على الارض دون غطاء ، لينتظر يوماً جديداً يأتي ليشرق بالسعادة .
 

في فبراير من عام 2011 وتحديداً في الحادي عشر من الشهر ، تنطلق شرارة الثورة ، ويتوافد اليمنيون من كل حدب وصوب إلى الساحات يحملون احلامهم فقط .
انها الثورة ، الطلاب ، المهنيين ، الباعة المتجولين ، المظلومين ، العاطلين عن العمل ، وصامد بالطبع يتقدمهم ، تختلط الاعمار مع مرور الايام ، تكتظ الارض ، وتعلوا اصواتهم ليسمعها العالم .

 

كانت المسيرات السلمية تتحرك في انحاء العاصمة وباقي المحافظات تهتف بالحرية ، و كان صامد يهتف بحرارة ويحمل علماً صغيراً ومعه يحمل حلم يتشاركه مع اصدقائه .
في مساء احدى الايام كان يجلس ليخط رسالة الى اهله كتب فيها :
جدي العزيز ، جدتي العزيزة ، امي الغالية ... السلام عليكم .
اطمئنكم باني بخير وبصحة .

 

لم يكمل صامد رسالته ، و وضعها في جيبه على أمل أن يكملها في وقت لاحق ، فما تزال هناك بضعة أيام على نهاية الشهر ، حينها سيكون قد تسلم اجرة عمله ، التي سيرسلها مع رسالته مع طبل قريته .
 

و في إحدى الأيام التي تلت ، كان صامد سعيداً كعادته ، و تحرك مع مجموعة من اصدقائه في مسيرة ، كان الجميع يتحدث عن الوطن ، ويتذكر صامد تعريف جده للوطن .. فتبدوا له صورة امه في خياله .
 

وفي اثناء تحركهم اطلقت عليهم الغازات المسيلة للدموع ، من قبل قوات الأمن ،ثم بدء صامد بالاختناق ، لكنه استطاع التحرك بعيداً عنها ، لم تكن تلك النهاية ،اذ اطلق عليهم بعض البلاطجة برفقة الأمن الرصاص الحي ، و في الزحام كان يشاهد من حوله يسقطون مذرخون بالدماء ، يحاول ان يساعدهم يحمل بجسده الصغير مع الاخرين ، من اصيب الى احد الدراجات النارية ، و سيارات الاسعاف المرافقة لهم ليحاولوا انقاذ ارواح رفاقهم واحلامهم .. في تلك الضجة لم يشعر صامد بنفسه ، إلا وهو مرمي على الارض ، احدى الرصاص اخترقت كتفه واخرى تسللت الى فخذ رجله الايمن .
 

صامد على الارض وفي اوج الموت ، يحمل جسده بعض الثوار ، يتحركون به مسرعين ، يحاولون ان يوقفوا نزيف الدم الصادر من كتفه ، يصلون به الى المستشفى الميداني ، لم يلحظ احد بانه قد نزف كثيراً من فخذه ، و غرقت ورقة في جيبه باللون الاحمر .. ماهي الا دقائق ثم غادرت روحه الطاهرة ذلك الجسد الصغير .
في اليوم التالي يتساءل صاحب البقالة ، يتساءل عاملو المطعم ويستغرب من في الورشة سبب غياب صامد ، ثم ما هي الا ساعات ليصعق الجميع بالخبر.

 

فاضت الاعين بالدمع تغير لون السماء ، و تغير حال الجميع ، لم يدركوا الا وهم يتحركون ليلقوا على وجه السعادة نظرتهم الاخيرة .. ثم يحملوه الى قريته ليوارى جثمانه الثرى .
 

ها قد وصل طبل القرية ، يحمل الرسائل والحاجيات الى اهالي القرية ، لكنه لم يحمل رسالة صامد في ذلك اليوم ، بل حمل جسده ، هطلت الامطار بغزارة شديدة على القرية ، رافقتها اصوات الرعد وحبات البرد ، ثم بدى في الافق جسد صغير ، لا يكاد يرى تحمله اكف الناس.
 

خر الجد مغشياً عليه ، وصرخت الأم صرخة سمعتها القرية بأكملها وصمتت الجدة من الحزن ، ولم تستطع ان تنبس بكلمة ،ثم اجتمع اهل القرية ، من كل حدب وصوب ، وحملوا ذلك الجسد المنهك ، وذلك الوجه المشرق بالسعادة الى المقبرة ، بعد اتموا الصلاة عليه ، اهالوا عليه التراب بلطف وودعته دموع اختلطت بزخات المطر وصمت الجميع لأيام ، وها هو المكان وكأنه لا يسكنه احد .

31 ديسمبر 2012
عبدالفتاح الصلوي 


انقر هنا لمشاهدة القصة في موقع الوادي  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مناجاة - لك الحمد يالله كم شدني وجد

 لك الحمد يا الله كم شدني وجد ُ لحمدك إجلالا لك الشكر والحمد ُ لك الحمد إن القرب منك وسيلة إليك وأما البعد ياسيدي بعد ُ لك الحمد والأغصان مالت وسبحت وفاحت بأنسام الرضى هذه الورد لك الحمد والأنسام بالحمد كم غدت وبشرى رياح الخير بالشكر كم تغدو لك الحمد والاشجان في دمع خدها دموع جرى من خد دمعتها خد  لك الحمد حمداً يسلب الحر حره  ويمسي بلا برد هنا ذلك البرد  لك الحمد حمدا يسلب المر مره ويغدو عناء الجهد ليس له جهد  أقل قليل الحمد في أن وهبتنا  عقولا وما للناس من حملها بد  وعلمتنا من فيض علمك ما به  عرفناك أنت الله الواحد الفرد  ونورتنا من نور نورك ما به  دنا منك عبد حظه أنه عبد  وتهتز بالتسبيح روحي كأنما  بها قد اضاء البرق وانفجر الرعد  على انه لن تبلغ الحمد أحرفي  فكيف بحمد ليس في حصره حد  وكيف بحمد لو جمعنا بحارنا  واشجارنا في عده يعجز العد  ويبدو لنا في ذكرك الحب والرضى  ادم سيدي هذا الشعور الذي يبدو  سمعت القصيدة في محاضرات الشيخ محمد المقرمي، عند البحث وجدت من ينسبها للشاعر فهمي المشولي. ...

قد مالت عمامتك يا أبا جوشن.

  قد مالت عمامتك يا أبا جوشن. كان أبو الخطار الكلبي ذو الأصول اليمنية و الياً  على الأندلس و عرف عنه  العدل و الإنصاف و اجتمعت كلمة المسلمين تحت رايته، حتى جاء إليه رجلان يختصمان أحدهما قيسي و الأخر من اليمانية و قيل بأن القيسي قد كان أبلغ حجة من اليمني و رغم ذاك إلا ان أبي الخطار غلبته عصبيته و حكم لليمني . فما كان من القيسي إلا أن توجه إلى زعيم القيسية الصميل ابن حاتم (ابو جوشن) ليشتكي له ما حل به، فذهب الصميل إلى ابو الخطار فأهانه وضربه حتى مالت عمامته، فرآه أحد الناس وقال:  " قد مالت عمامتك يا أبا جوشن" فرد عليه: "إن كان لي قومٌ فسيقوّمونها" . وقد حدث حيث إستقطب ابو الجوشن بعض الشخصيات اليمنية إلى صف القبائل القيسية و وقعت معركة وادي لكة عام ١٢٧هـ والتي أسفرت عن إنتصار الصميل بن حاتم وحلفائه اليمنيين. الصورة للفنان غسان مسعود بدور الصميل في مسلسل صقر قريش.

حالة (الحكمة اليمانية) ليومنا هذا !

حالة (الحكمة اليمانية ) ليومنا هذا :  الاجواء غائمة على بعض الاجزاء الشمالية ومريم كل شوية وجزعة تشطف وغائم على الاجزاء الجنوبية والرادار غير قادر على تقديم قراءة دقيقة  بالمجمل , فاللي زعلان على البكري <------ على اساس اقيل من جنة عدن مش من محافظة عدن المدمرة والخارجة من الحرب و ذات الانفلات الامني . واللي عنده غثيان لان عبدربه جزع الممخط رياض ياسين معه الوليمه وسيب ابن (الدبلوماسية اليمنية ) مع انه داهن بسليط نارجي وما شط على شق . واللي يحتفل بسوناتا القمر وتسامح الاصلاح اللي من ربع قرن رآنا سعداء مع عغاش فغض النظر . والقائمة تطول والخلاصة : نحن نعيش في النعيم ونحن والقمر جيران ، والحكومة والرئاسة حاضرين عزومة مدري عرس حق الجيران و ما فيش شي الا انه بتعز كم نفر مات بسبب حمى الضنك وكم نفر مات من السفاط حق الحوثيين . ومدري كام دولة من اسابيع في مارب اجئوا بموكب عشان يروحوا العروسة ، و البلاد في رخاء والشعب كل يوم زامل و عامل ريجيم وما يأكلش غير خيارات استراتيجية .  واهدي تحياتي وسلامي الى اي شخص وحرمه بمناسبة ارتزاقهما هذا النكد و جعلها اخر...