انه المساء... الدخان يتنفس زخاته الأخيرة التي تعلو مداخن البيوت ، والمكان يتثاءب .. الليل يسدل استاره ، ثم ينسحب الجميع ، وكأنهم يطبقون تلك الخطة التي تدارسوها قبل ذلك ؛ الضوء انسحب تدريجياً ،رافقته الاصوات التي خبئت معه ببطء .
المكان ساكن تماماً ، خلا بعض الانوار التي تبدو كنجوم صفراء ، او درر رميت على بساط حالك السواد ، ثم اصوات بعض العجائز يمددن ارجلهن المنهكة ويهدهدن احفادهن ..
تستمر تلك الدرر في الاختفاء ، ويستمر الصمت في احتلال المكان ، الى ان يصل ذروته ، ينتابه بعض التحركات لبعض النسوة ، تدعو لا بنائهن في غيابهم ، في ذلك الوقت الذي يحركن السلة التي تحتوي على (دبية) الحليب .
ها هو الليل قد انتصف ، لا شيء في الأفق ، لا شيء اطلاقاً ، سكون تام ، تمر الدقائق كأنها لا تتقدم ، فجأة يصدر صوت لا يعرف مصدرة لكن ما يميزه أنه مخيف ، بعد الانصات لذلك الصوت عدة مرات بهدوء وخوف شديدين ، يتضح انه صوت طائر البوم ، وها هو المكان وكأنه لا وجود له .
في النهار ، الارض قاحلة ، قليل من البشر يدبون على تلك المنطقة ، و يختفون عند بلوغ الشمس كبد السماء , تحاول الرياح ان تلطف الجو بمرورها , ثم انها لا تستطيع ، تحمل معها بضعة اوراق متساقطة ، وغبار ترميه على اوجه المنازل ، وعلى ارصفة الطرقات وتهز سيقان الشجر .
لا أحد يبتسم ، الاطفال الذين يطلون من الشرفات ؛ تبدو على وجوههم الحكمة ، تمر غيمة مسرعة في السماء تربت على اسقف المنازل ، على قمم الجبال ، على حبات الحصى ، ثم تغادر ، وكأنها تبحث عن شيء .
الوضع لم يدم، هناك في وسط الهدوء وفي وسط حفنه من البيوت ينطلق صوت ،
عاااااااااااااااااااااااااان
فتى يلعب !
ابتعدوا عن الطريق دراجتي سوف تصدمكم .
انه ( صامد ) ، ما يفتى أن يحدث حركة غير عادية في المكان .
إحدى النسوة : صامد خذ هذا الى عمتك !
يجيب : حاضر يا خاله فوراً ، عااااااااااااااااااان ، ينطلق صامد بدراجته الوهمية ، تتحرك معه الاوراق الملقاة على الارض وشفاه من يمر عليهم ، ويحاول بعض الاطفال إعاقته لكن سرعته تبلغ ذورتها ، لديه خف قديم وثيابه تبدو باليه ، نحيف جداً ، وظريف جداً .
صامد فتى في الابتدائية ، يدرس في مدرسة القرية ، يبدئ يومه في الصباح الباكر ، يصحو دائماً سعيداً ، يقدم الطعام لجده ، ويجلس ليتناول افطاره معه ، يسأله الجد عن ما قرء من سور القرآن في اليوم السابق ، فما يفتى يتلوها على مسامعه ؛ فيعده بأن يشتري له ثياباً جديده عندما يتفوق على الجميع ، ينهي افطاره ويتحرك بسرعه ، ينادي على رفاقه فيتبعوه ، كأنه القائد .
يقف في طابور الصباح نشيطاً ، وهنا لا احد يحيي العلم سواه ، يقف بشموخ مفرط امام تلك الخرقة البالية التي ترفرف أعلاه ، يصيح بكل صوته ليردد الجميع بعده :
الله .. الوطن .. الثورة .. الوحدة .. تحيا الجمهورية اليمنية ...
وبعدها يتحرك الطلاب بخطوات منتظمة ، الى تلك الأماكن التي يدعونها فصول ، فالمكان عبارة عن هيكل لمدرسة ، لا أبواب ، ولا نوافذ ،ولا كراسي ، يجلس الطلاب على الاحجار ، وتداعب اجسادهم الصغيرة الرياح .. وينظرون الى ما يكتب على لوح خشبي ذو لون اسود .
تمر الساعات وينهي الجميع يومهم الدراسي ، يسرع الاطفال الى الخروج ، صامد بالطبع في مقدمتهم ، وهم اما يرددون نشيداً او يناقشون الأحلام التي حملوها حتى الآن ، راسمين في أذهانهم صورة للمستقبل .
يهرع صامد الى جده الذي يعمل في حراثة الأرض ليساعده ، ثم واذ هم متكئون الى ظل شجرة ، يسأل جده الذي بدوره ينظر الى الافق بصمت وعلى وجهه قد رسم الزمن تعرجاته.
جدي ما هو الوطن ؟
لقد قالوا لنا في المدرسة بانه اغلى شيء لدينا !
هل يعني بان الوطن اغلى من هذا الثور !
واغلى من بقرة جدتي !
الوطن اغلى من بئر القرية ايضاً !
يلتفت الجد ، يمسك بيده كتلة من التراب ، ويذروها امام عيني صامد قائلاً :
هذا هو الوطن ! انه الارض .. الوطن هو أُمنا جميعاً .. ترضعنا ، وعندما يحين الوقت ننام في احضانها !
تنطبع تلك الكلمات في ذهن صامد ، لكنه لم يفهم معناها .
تمر الايام برتابتها ، وبحيوية صامد ، وتكسو الارض الخضرة ، ثم تخلع ذلك الثوب .
وها هو صامد قد بدء في النضج ، وبلغ من العمر ما يؤهله ان يترك القرية ، مثل باقي الاطفال الذين لم يتموا دراستهم الاعدادية ، سينتقلون الى العاصمة ، كي يعملون ، اما في ورشة ، او في مطعم ، او غيره ،وسيواصلون دراستهم معتمدين على انفسهم ، وسيرسلون بما تبقى من مبالغ بسيطة الى اهاليهم ، سينامون في البرد ، و سيغسلون الصحون ويقدمون الطعام ، وسيتعلمون اللحام ، ستذرف عيونهم الدمع ، وسينهرهم الاخرون ، وسيبتسمون لمن حولهم دائماً .
صامد في احدى المطاعم ، ينادي بطلبات الزبائن ، ويتحرك بسرعة ليجلب ما طلب كأنه الوحيد الذي يعمل ، كأنه الملك لا احد يجاريه في شيء ، في الركض ، في الصراخ حتى في الحساب ..
ما هذه السمفونية التي يعزفها هذا الطفل !
انه ينشر السعادة اينما مر ، ويحقق النجاح ..!
لا شيء في جعبة هذا الطائر ، سوى التغريد والحب والعطاء . لم يره احداً على غير هذا الحال .
ينهي عمله ، ثم يمر على اصدقائه ، ويجلس في المساء القرفصاء ليكتب واجباته ،وبعدها يرمي بجسده النحيل على الارض دون غطاء ، لينتظر يوماً جديداً يأتي ليشرق بالسعادة .
في فبراير من عام 2011 وتحديداً في الحادي عشر من الشهر ، تنطلق شرارة الثورة ، ويتوافد اليمنيون من كل حدب وصوب إلى الساحات يحملون احلامهم فقط .
انها الثورة ، الطلاب ، المهنيين ، الباعة المتجولين ، المظلومين ، العاطلين عن العمل ، وصامد بالطبع يتقدمهم ، تختلط الاعمار مع مرور الايام ، تكتظ الارض ، وتعلوا اصواتهم ليسمعها العالم .
كانت المسيرات السلمية تتحرك في انحاء العاصمة وباقي المحافظات تهتف بالحرية ، و كان صامد يهتف بحرارة ويحمل علماً صغيراً ومعه يحمل حلم يتشاركه مع اصدقائه .
في مساء احدى الايام كان يجلس ليخط رسالة الى اهله كتب فيها :
جدي العزيز ، جدتي العزيزة ، امي الغالية ... السلام عليكم .
اطمئنكم باني بخير وبصحة .
لم يكمل صامد رسالته ، و وضعها في جيبه على أمل أن يكملها في وقت لاحق ، فما تزال هناك بضعة أيام على نهاية الشهر ، حينها سيكون قد تسلم اجرة عمله ، التي سيرسلها مع رسالته مع طبل قريته .
و في إحدى الأيام التي تلت ، كان صامد سعيداً كعادته ، و تحرك مع مجموعة من اصدقائه في مسيرة ، كان الجميع يتحدث عن الوطن ، ويتذكر صامد تعريف جده للوطن .. فتبدوا له صورة امه في خياله .
وفي اثناء تحركهم اطلقت عليهم الغازات المسيلة للدموع ، من قبل قوات الأمن ،ثم بدء صامد بالاختناق ، لكنه استطاع التحرك بعيداً عنها ، لم تكن تلك النهاية ،اذ اطلق عليهم بعض البلاطجة برفقة الأمن الرصاص الحي ، و في الزحام كان يشاهد من حوله يسقطون مذرخون بالدماء ، يحاول ان يساعدهم يحمل بجسده الصغير مع الاخرين ، من اصيب الى احد الدراجات النارية ، و سيارات الاسعاف المرافقة لهم ليحاولوا انقاذ ارواح رفاقهم واحلامهم .. في تلك الضجة لم يشعر صامد بنفسه ، إلا وهو مرمي على الارض ، احدى الرصاص اخترقت كتفه واخرى تسللت الى فخذ رجله الايمن .
صامد على الارض وفي اوج الموت ، يحمل جسده بعض الثوار ، يتحركون به مسرعين ، يحاولون ان يوقفوا نزيف الدم الصادر من كتفه ، يصلون به الى المستشفى الميداني ، لم يلحظ احد بانه قد نزف كثيراً من فخذه ، و غرقت ورقة في جيبه باللون الاحمر .. ماهي الا دقائق ثم غادرت روحه الطاهرة ذلك الجسد الصغير .
في اليوم التالي يتساءل صاحب البقالة ، يتساءل عاملو المطعم ويستغرب من في الورشة سبب غياب صامد ، ثم ما هي الا ساعات ليصعق الجميع بالخبر.
فاضت الاعين بالدمع تغير لون السماء ، و تغير حال الجميع ، لم يدركوا الا وهم يتحركون ليلقوا على وجه السعادة نظرتهم الاخيرة .. ثم يحملوه الى قريته ليوارى جثمانه الثرى .
ها قد وصل طبل القرية ، يحمل الرسائل والحاجيات الى اهالي القرية ، لكنه لم يحمل رسالة صامد في ذلك اليوم ، بل حمل جسده ، هطلت الامطار بغزارة شديدة على القرية ، رافقتها اصوات الرعد وحبات البرد ، ثم بدى في الافق جسد صغير ، لا يكاد يرى تحمله اكف الناس.
خر الجد مغشياً عليه ، وصرخت الأم صرخة سمعتها القرية بأكملها وصمتت الجدة من الحزن ، ولم تستطع ان تنبس بكلمة ،ثم اجتمع اهل القرية ، من كل حدب وصوب ، وحملوا ذلك الجسد المنهك ، وذلك الوجه المشرق بالسعادة الى المقبرة ، بعد اتموا الصلاة عليه ، اهالوا عليه التراب بلطف وودعته دموع اختلطت بزخات المطر وصمت الجميع لأيام ، وها هو المكان وكأنه لا يسكنه احد .
31 ديسمبر 2012
عبدالفتاح الصلوي
انقر هنا لمشاهدة القصة في موقع الوادي
تعليقات
إرسال تعليق